من وحي اللغه
بغير الشعر،
كيف
كنا عرفنا حياة العرب الأقدمين.. في الجاهلية السحيقة، ولدى ظهور الإسلام،
وفي بداية توسع الدولة الإسلامية..؟ بل كيف كان لنا أن نعرف خصائص الخيل،
وصفات الجمل، ومقاييس جمال الناقة؟ كيف كنا سنتخيل رؤيتهم للصحراء، و ركوبهم البحر، تجارتهم، خمرهم، جدهم وهزلهم...كيف كنا عرفنا تاريخ العرب دون الشعر؟
فالشعر ديوان العرب أو كما يقول أبو فراس الحمداني
الشعر ديوان العرب أبداً وعنوان الأدب
لم أعْدُ فيه مَفاخِري ومديحَ آبائي النُّجَب
ومُقطّعاتٍ ربّما حلّيتُ منهنّ الكتب
لا في المديح ولا الهجا ء ولا المجون ولا اللّعِب
عرف العرب صناعتين اثنتين، مادتهما
الكلام، الصناعة الثانية هي النثر، من أمثال وخطابة، أما الصناعة الأولى
الخالدة فهي الشعر... و يقول أبو الهلال العسكري الناقد صاحب(كتاب
الصناعتين): "لا تُعرف أنسابُ العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها، إلا من
جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع
علومها".
خذ عندك: وقعة ذي قار، الحرب الشهيرة التي خرج العرب فيها عن نطاق الحرب فيما بينهم
إلى قتال الفرس، الدولة القوية والإمبراطورية التي تتقاسم السيادة مع
الروم.
قاتل العرب الفرس وانتصروا عليهم في وقعة
ذي قار، وخلدها شعراؤهم، ورقص بها صناجة العرب الأعشى، وغنى قصيدة من أجمل
ما قيل من شعر، تلمح فيها رؤوسا تتطاير، ودماء تسيل من قوافي الأبيات،
قصيدة: معانيها ومبانيها تثبت تاريخ الفخر للعرب.
يحكي الأعشى: أن هؤلاء جنود كسرى صبحناهم في "حنو" وهو موقع ذي قار، بكتائب تسوق الموت
لأعدائها، فهرب الفرس، فأتبعناهم.. ووراءهم خيل قبيلة بكر، لا تبحث عن سلب
مقتول، ولا عن غنيمة، هي فقط تطحنهم قتلا.
كانت بداية المعركة مع الشروق، فثبت لنا
النصر عن الظهيرة، فكان النصر، ولو كل قبائل العرب شاركت في تلك الوقعة
العظيمة، لنالت الشرف.
و انظر لغناء الأعشى:وجندُ كسرى غداة َ الحنوِ صبحهمْ مِنّا كَتائبُ تُزْجي المَوْتَ فانصَرَفُوا
وَخَيلُ بَكْرٍ فَما تَنفَكّ تَطحَنُهمْ حتى تولوا، وكادَ اليومُ ينتصفُ
لَوْ أنّ كُلّ مَعَدٍّ كانَ شارَكَنَا في يومِ ذي قارَ ما أخطاهمُ الشّرفُ
فمن غير الشعر، لم نكن لنعرف عن أجدادنا
شيئا، و من غير الشعر، لم نكن لنعرف عن الجاهلية قبل الإسلام شيئا، ومن لم
يعرف الجاهلية لم يكن ليعرف الإسلام...
د. محمد عبدالعزيز الموافي